AB2-03

 ريندا توشنر

مهندس معماري أمريكي من أصل تركي

من دراسة الهندسة المعمارية إلى الشهادة في سبيل الله

 ولد “ريندا” في أمريكا في كنف عائلة تركية ، ولذلك فهو ليس بجديد على الإسلام ،  و لكنه كان يجهل كل شيء عن الإسلام حتى بلغ سن الشباب ، و لعل في قصة حياته الكثير من العبر.

و من المفيد بدايةً وصف الوضع العام للجالية التركية في أمريكا و خاصة في ديترويت بولاية ميتشجان ، فالأتراك الذين يعيشون في أمريكا حاليا هم الجيل الثالث من المهاجرين الأتراك الذين بدءوا في الهجرة إليها منذ عام 1970م ، ولقد حققوا نجاحا كبيرا في أعمالهم المختلفة و شغلوا وظائف عليا في مجتمعاتهم و أصبحوا يقطنون في الأحياء الغنية الراقية في مدنهم ، و لكن الملحوظ على هذه الجالية هو ذوبانهم الكامل في المجتمع الغربي الأمريكي بحيث أنهم فقدوا الهوية الإسلامية مثلهم مثل الكثير من المغتربين المسلمين – رغم أن هناك أعداداً كبيرة من المغتربين قد أضحوا من الملتزمين بالدين الإسلامي بعد استقرارهم في أمريكا بعكس وضعهم الديني و تمسكهم بالإسلام  في بلدانهم – و نلاحظ كذلك أن شباب الجاليات الإسلامية هم أكثر التزاماً من الآباء بسبب ما توفره أمريكا من الحرية الدينية.

 عائلةٌ مسلمةٌ و لكن …

كانت عائلة “ريندا” من أغنى و أبرز العائلات في الوسط التركي الأمريكي حيث كان والداه يعملان في مجال الطب الذي يعد من المجالات المرموقة ذات الدخل المادي المتميز في أمريكا ،  و بالرغم من أنه نشأ في كنف عائلة ثرية إلا أنه افتقد إلى التربية الإسلامية،  و أدى ذلك إلى جهله الكامل عن الإسلام و تعاليمه منذ الصغر مروراً بسنوات الدراسة الأولى و حتى المرحلة الثانوية و من ثم الجامعية، و لكنه بدأ يكوّن بعض الأفكار حول الإسلام من خلال اختلاطه بالطلاب المسلمين من جنسيات مختلفة في الجامعة و من خلال الجو العام في الجامعات الأمريكية و الذي يتميز بحرية الرأي و الفكر، بدأت تعاليم الإسلام تروق له بسبب كونه مهذباً بالفطرة. و كان اكتشافه بأنه نشأ في عائلة مسلمة بمثابة الصدمة له ، و أصبح مدركا أن أوضاعه العائلية كانت حائلا بينه و بين تعلم الإسلام و مما رسته في واقع الحياة . كانت هذه هي بداية اكتشافه لدينه الإسلامي من جديد و بداية لمحاولات جديدة في طريق  تطبيق  الإسلام في حياته اليومية .

 

الحياة العملية

كان ذكاء “ريندا” و تفوقه الدراسي سببا في بروزه  في مجال الهندسة المعمارية، و سرعان ما التحق بشركة أمريكية أثناء استعداده لاختبار الحصول على رخصة مزاولة المهنة، و بالرغم من أن الإعداد لهذا النوع من الاختبار و من ثم النجاح فيه يستغرق زمناً طويلاً يصل إلى السنوات و يتطلب محاولات متكررة ، إلا أن “ريندا” تمكن من اجتيازه  في أسابيع قليلة  و بعد محاولة واحدة فقط.

و صاحب هذا النجاح في المجال العملي نجاحا آخر في اكتساب العلم و المعرفة الإسلامية ، و ذلك بعد استفادة “ريندا” استفادة عظيمة من الأنشطة الإسلامية في مسجد “آن آربر Ann Arbor ” و من أنشطة الجالية المسلمة  بولاية ميتشجان ، و بعد أن تقاعد و الداه عن العمل و قررا العودة إلى تركيا قرر “ريندا” البقاء في أمريكا بسبب حبه للمجتمع المسلم في “آن آربر” و رغبته الجامحة في المشاركة في أنشطته. 

و كان لي معه موقف عجيب حيث حدث ذات مرة أنني كنت ألقي خطبة الجمعة في مسجد جامع بولاية ميتشيجان و هو المسجد الذي  اعتاد  “ريندا” أن يؤذن به  ، و لقد تحدثت في الخطبة عن قصة النبي يوسف عليه السلام مع إخوته وكان حديثي مركزاً على قميص يوسف، فالقميص استخدمه إخوة يوسف بعد تلطيخه بدمٍ كذب لإثبات أنه قد أكله الذئب ، و القميص كذلك كان سبباً في إثبات براءته من تهمة فعل الفاحشة بامرأة العزيز ، و القميص أيضاً كان سبباً في إعادة نعمة البصر إلى أبيه يعقوب عليه السلام بعد أن فقدها حزنا على يوسف ، و تساءلت و أنا أروي قصتي: “إذا كان القميص قد أدى كل هذه المعجزات، فما بال صاحب هذا القميص الذي كان يرتديه؟  من المؤكد أنه شخص غير عادي.” وكان تأثر “ريندا” بهذه القصة كبيراً فبمجرد عودتي إلى المنزل إذا به يهاتفني مستفسراً عما إذا كان هذا الكلام هو من محض تأليفي، فأجبته على الفور بالنفي مؤكِّداً أن هذا هو تفسير العلماء المسلمين لكلام الله عز و جل في سورة يوسف من القرآن الكريم، و ذكرت أنني مجرد طالب علم و ليس لي الحق في أن أفسر كلام الله عز و جل بمعزل عن كلام أهل العلم من المسلمين.  و الحقيقة أن هذه الحادثة تمثل نقطة تحول في حياة “ريندا” الإسلامية و زيادة معرفته بالإسلام و أحكامه و قواعده.

بدأ تعلق “ريندا” بالإسلام يزداد مما انعكس على مظهره الخارجي، و لذلك كان حريصا على ارتداء الزي التركي التقليدي ذي الصبغة الإسلامية حتى أثناء العمل ، سألته ذات مرة إن كان ذلك يسبب له مشكلة أو إحراجاً خاصة مع أرباب العمل بسبب طبيعة عمله و لقائه بشخصيات متعددة في أماكن مختلفة، فرد بكل ثقة قائلاً : “يتعين عليهم قبولي كما أنا إن كانوا حريصين على بقائي في العمل”  فقلت له: “ألا تواجه نوعاً من التحيز العنصري بسبب هذا اللباس.”، فكان رده قوياً واضحاً: ” هذه ليست مشكلتي أنا بل مشكلتهم هم.” 

والحقيقة أن مظهره الإسلامي وبهذه العمامة يدعوا إلى الإعجاب مما جعلني أتساءل عن كيفية ربطها بهذه الطريقة الجميلة.

ونما اهتمام هذا الشاب التركي بالإسلام و نما معه حماسه لدينه  فكانت مساهماته للعديد من المجتمعات الإسلامية بأمريكا مميزةً حقا،  ومن ذلك أنه كان يقوم بعرض الإسلام على بعض السجناء الأمريكيين، و لا شك أن هذا العمل في حد ذاته يتطلب الكثير من الوقت و الجهد، ولكن تجربته مع السجناء كانت إيجابية بالفعل، و كان للجهد الكبير الذي قام به في تبسيط رسالة الإسلام الشاملة لهؤلاء السجناء أثر عظيم في تقبلهم لدعوته، حيث أنه من شدة حماسه  قام شخصياً بإعداد الكتيبات و المطويات الإسلامية المختصرة  على نفقته الخاصة ، ولأنني كنت أساعده في مراجعتها وجدت أن هذه الكتيبات و المطويات ذات قيمة كبيرة للمسلمين الجدد، وأسال الله أن يؤجره على هذا العمل الجليل.  و من ناحية أخرى، ساهم “ريندا” بخبرته العلمية و العملية في إنشاء مسجد (فارمنقتون هِل) Farmington Hill Mosque بمدينته حيث أعد الرسوم الهندسية اللازمة للمسجد شاملة جميع مرافق ومواقف وخدمات المسجد، وأشرف على تأسيسه منذ البداية، و أستطيع أن أقول أنه لولا جهوده الجبارة في إتمام هذا المشروع  لما رأى النور بتاتاً.

الحياة الاجتماعية

و لم تكن حياة “ريندا” الإجتماعية الخاصة أقل تميزاً من حياته العلمية و العملية ، و حين رحل إلى تركيا بغرض الزواج لم يطلب من والديه أن يساعداه في الاقتران بإحدى الفتيات من العائلات الثرية هناك ، بل إنه أخبرني أنه قام بنفسه باختيار فتاة من عائلة بسيطة للزواج منها ، رغم أنه كان متأكداً من عدم معرفتها بأي شيء عن الإسلام إلا أنه عزم و بكل ثقة على تعليمها الدين الإسلامي انطلاقاً من إيمانه  الكامل بمهمة النبي محمد صلى الله عليه و سلم و جميع الرسل في الدعوة إلى الله و خاصة بين الأقربين .

و لذلك كان منهجه في دعوة زوجته لا يعتمد على مجرد التعليم الإسلامي فقط بل و يتعداه إلى القيام بدور القدوة الحسنة في ممارسة السلوك الإسلامي ، و بذلك أثمرت جهوده حيث اكتسبت زوجته المعرفة بالدين الإسلامي سريعاً و عاشا معاً في سعادة كبيرة حيث رزقهما الله بطفلتين.

من العلم الشرعي إلى الجهاد في سبيل الله

لم يتوقف “ريندا” عند هذا الحد في خدمة الإسلام و المسلمين بل إنه مارس النشاط الإسلامي بشكل أكثر فعالية بمساعدة زوجته المخلصة و تعاونها , و جاءت المرحلة الحاسمة في حياة هذا الشاب المسلم حين قرر تقديم المزيد من التضحيات في سبيل خدمة هذا الدين الحنيف،  فلم يلبث أن سمع بمحنة المسلمين و عذابهم و المذابح المفزعة التي تعرضوا لها إبان الحرب البشعة في البوسنة إلا و قام بتلبية النداء للجهاد في سبيل الله و ياله من قرار و يالها من تضحية!  ترك “ريندا” زوجته و ابنتيه الصغيرتين في “آن آربر” في ولاية ميتشجان بأمريكا في رعاية إخوانه من الجالية التركية المسلمة ،  و لقد قام بتوديعي ثم طلب مني أن أتابع أوضاع عائلته أثناء غيابه ، و هذا القرار الصعب لريندا يدل على أن هذا الشاب يملك شخصية مميزة  على درجةٍ كبيرةٍ من الثقة و حازمةٍ في اتخاذ القرار كما أنها شخصية قادرة على وضع قراراتها حيز التنفيذ.  أذكر أنه كان يردد رغبته القوية في إغاثة أيتام المسلمين في البوسنة و تقديم العون لهم في هذه الفاجعة التي كانت تمر بهم، و بعد فترة من الزمن جاءنا الخبر الذي كان وقعه كالصاعقة و هو خبر استشهاد “ريندا” في أرض المعركة في البوسنة .

كانت هذه هي نهاية حياة شاب خدم الإسلام بكل ما يملك ، و يحق للجالية الإسلامية في “آن آربر” أن تفتخر بهذا الشاب المسلم و بعائلته الصغيرة و لذلك فقد قامت الجالية سريعاً بإنشاء وقف جُمع فيه مبلغ ستون ألف دولار تقريباً و تخصص للصرف على التعليم الجامعي لليتيمات اللاتي تركهن الشهيد بإذن الله  “ريندا”.

وبفضل الله تعالى فإن أرملة “ريندا” رحمه الله تستزيد من العلم الشرعي يوماً بعد يوم من حفظ كتاب الله و أحاديث المصطفي صلى الله عليه وسلم ، و كذلك بناته الصغيرات اللاتي يتلقين أفضل تربية إسلامية من تلك الأم المخلصة.  و لقد علمنا أن والدي “ريندا” تلقيا خبر استشهاده بالفخر و الاعتزاز أيضا، و يدعو له جميع الإخوة في مسجد التوحيد في ميتشجان بالرحمة و يكنون له العرفان و التقدير لمساهمته الفعالة في إنشاء و تصميم و بناء مسجدهم على أفضل وجه، و أخيراً نسأل الله العلي القدير أن يتقبل “ريندا” في عداد الشهداء الأبرار مع النبيين و الصديقين في جنة الخلد.. آمين.

Back to Contents